كثيرًا ما أراقب من عند الشاطئ بوابة الدخول إلى “بيترشالكا” – لونابارك. أحاول تجنب نظرات تماثيل أبو الهول الحارقة التي تحرس بوابة الدخول، وتتظاهر بالمرح. خيول، وبط، وأوز كلها بأحجام ضخمة، وألوان زاعقة، وتدور في حلقة مفرغة، محكمة الغلق. تتحرك في دائرة شيطانية واضحة المعالم. وتدور من فوقها عجلات أطفال تقفز وتصرخ. حركة دائرية تلتهم معالم المنطقة.
لا مخرج من هذه الدائرة التي لا تنكسر. اتخذ بعض الأطفال قرارًا خاطئًا بالدخول فيها، فأمسكوا برقاب الخيل الصناعية بكل عزمهم، وانخرطوا في البكاء.
قال المسئول عن أرجوحة الملاهي وهو يتطلع إلى السماء، ويزيد من سرعة الدائرة: “هذا ما أسميه الحياة”.
تبدو لونابارك في بعض الأيام وكأنها مغلقة بعد أن أصابها العطب. لا يعمل فيها سوى بضعة أراجيح، ولعبة إطلاق النار. بينما يتسكع عمال الملاهي في أرجاء المكان الموحل. أجساد مأساوية تذكرك بإنجلترا وقت أن كانوا يستخدمون الأطفال لتنظيف المدافئ. كدت ألفظ أنفاسي الأخيرة وأنا في عربة زرقاء بحلبة السيارات الكهربائية عندما ارتطمت بأخرى زرقاء. كان أبي كلما تحدثنا عن الأراجيح يحكي دائمًا لي عن البجعة الزرقاء التي انفصلت عن الأرجوحة وعليها طفلان صغيران.
جدتي كانت تصحبني معها الى غرفة المرايا، كنا نضل طريقنا إلى الخارج – وتختفي الطرق والأبواب، وتتوقف المرايا عن كونها نوافذ، ولا يبق غير أنا وجدتي، جدتي وأنا، وجهانا يزدادا امتقاعًا فوق المرايا. وبعد نصف ساعة نبدأ في النداء على الرجل الذي ابتاعنا تذكرتين كي يأخذنا إلى الخارج. ويقودنا إلى طريق الخروج.
تاهت أمي وجدتي في حي “بيترشالكا” بعد مرور بضعة سنوات على آخر مرة كنا هناك. استقلتا الحافلة الصحيحة، لكن في الاتجاه المعاكس. وبدلًا من أن تحملهما إلى المدينة، أقلتهما إلى أعماق الحي السكني البعيدة.
وعندما غادرتا الحافلة وجدتا أن الظلام قد حل، وبدأت الثلوج تتساقط. انتابهما شعور بأنهما لن تعودا إلى البيت مجددًا، ولن تخرجا من هذه المنطقة مدى الحياة: من فضلكِ، كيف نصل إلى مدينة براتسلافا؟ صاحت أمي في امرأة تقف على محطة الحافلات. فأجابتها الفتاة باستغراب: “أنتِ بالفعل هنا. أنتِ في برتسلافا!”
ابتسمت أمي بيأس، وقالت: “أنا أقصد إلى وسط مدينة براتسلافا”. وعندما تجاوزتا الجسر، سألت أمي جدتي إن كانت قد لاحظت وجه تلك الفتاة الغريبة. كان يشبه كرة الجبن. عندما أردت أن أمارس الجنس مع “إيان” للمرة الأولى أخبرني إنه يسكن في حي “بيترشالكا”. لم أهتزّ (أتذكر أني وقتها لم أشعر بأي خوف).
الجسر خطير، خاصة عندما يعبره الإنسان سيرًا على الأقدام. النهر قريب جدًا من الجسر، والحد الفاصل بين الماء والهواء لا يكاد يرى. وأخشى من أن أسقط في الماء دون أن أدري. ودون أي استعداد، أو أية أفكار حزينة، ودون أن أصيح: هوب! أخشى أن أسقط دون حكاية أو قرار. لذلك تتحول الخطوات المنتظمة فوق الجسر إلى مجرد قفزات.
أشعر برغبة أكبر في الهرولة في شهور الشتاء. فالإنسان يشعر وسط طبقات الملابس الثقيلة بأنه في مأمن، ولا يمكن أن يصيبه شيء، ويتطلع إلى التغيير. تمامًا مثل الرجل البدويّ الذي يتطلع إلى تغيير الأفق، أشعر برغبة في تغيير ما أنا عليه في أشهر الشتاء. وبدلًا من خطوات ثقيلة مترددة فوق سطح الجسر المغطى بالثلوج يصبح القفز طيران. ثم تحين اللحظة الفارقة التي تتسع، لتضم لحظة أخرى أستلقي فيها في الماء، لكنه لا يخترق طبقة الملابس فوق جسدي. بل يتسرب ببطء، متثاقلًا وأخضرًا مثل حبات الحلوى المنعشة – يملأ جيوبي، ثم يصل إلى داخل حذائي.
صعدت كرة جبن إلى الحافلة. مرقت من أمامي أكتاف مكتظة باللحم ومغطاة بالوشم. فضّلْت أن أغلق عيني كي لا أضطر إلى رؤية تلك الأشكال التي تتلوى وسط ألسنة اللهب على وجه كرة الجبن التي يظللها ضوء القمر الساطع خلف النافذة. تركت نفسي أهيم، وأسترق النظر بعيني المواربتين.
يبدو أن “إيان” قد أصابه العمي عن رؤية صور حي “بيترشالكا” منذ زمن. عندما قرر ألا يرى شيئًا، وألا يلتفت حوله، وألا يتابع ويراقب ما يحدث في “بيترشالكا”.
تذكر “إيان” عندما جاء لزيارته صديق الطفولة بعد أن انقضت أعوام طويلة لم يلتقيا فيها. صديق كان قد هاجر عام ثمانية وستين إلى كندا. راح صديقه ينظر من نافذ شقته بحي “بيترشالكا”. كانت من الزيارات النادرة له. فقال: “هذه هي حياتكَ إذن”، ثم ربت على كتف “إيان”، وعاد من حيث جاء، واختفى، ولم يظهر من بعدها. لقد دفعته “بيترشالكا” إلى الهرب.
لم يعجبني يومًا الوشم الذي يضعه الناس على أجسادهم. إنه يذكرني بالسجن، وبسفن القراصنة، وبعامل مخمور في حافلة في أشهر الصيف. كنت في طريقي مع أمي في الحافلة عائدة إلى البيت. توجه نحو أمي أحد العمال الذي يضع وشمًا على صورة عروس البحر، وقلب يخترقه سهم، وكلمة كارمن على ساعده. قال لها: “إلا ما تنظرين؟”. أجابته أمي: “أنا لا أنظر إليكَ”، ثم انتقلنا إلى جزء آخر من العربة.