وبينما هو غارق في افكاره المتلاحقة، وعاجز على النهوض من السرير – دق جرس المنبه ليعلن السابعة إلا الربع – سمع طرقات حَذِرة على الباب القريب من السرير، ونادى الصوت – كان صوت أمه -: “(رشيهورش)! إنها السابعة إلا الربع. ألن تذهب إلى العمل؟”. ياله من صوت رقيق! فزع (رشيهورش) عندما سمع الصوت الذي أجابها به. إنه صوته الذي اعتاده من قبل، لكنه كان مصحوبًا بصوت زقزقة كبيرة قادمة من أعماقه، ومصحوبًا بألم. كان صوته في الوهلة الأولى واضحًا مع تلك الزقزقة، التي شوشت علي الكلمات، فلا يعرف الانسان إن كان قد سمع الكلام جيدًا. أراد (رشيهورش) أن يجيبها بإسهاب ويشرح لها الأمر. لكن إجابته في هذه الظروف كانت مقتضبة: “نعم، نعم يا أمي، شكرًا، ها أنا أنهض”.لم يكن ممكنًا عبر الباب الخشبي ملاحظة التغيير الذي حدث على صوته، فقد ارتضت أمه بتلك الإجابة وانصرفت. لكن الحوار المقتضب نبه باقي أعضاء الأسرة إلى أن (رشيهورش) مازال في البيت على غير المتوقع. وخبط أباه على أحد الأبواب المجاورة بضربة خفيفة من قبضة يده، وقال: “رشيهورش! رشيهورش! ماذا حدث؟”. وعاود الطرق بعد لحظات بطريقة أكثر إلحاحًا، ونادى بصوت أكثر عمقًا: “رشيهورش!، رشيهورش!”. ثم جاءه من ناحية باب جانبي آخر صوت هاديء ينتحب: “رشيهورش؟ هل أنت بخير؟ هل تحتاج إلى مساعدة؟”. أجاب (رشيهورش) في كلا الجانبين، وقال: “ها أنا قادم”، حاول جاهدًا أن ينطق الكلمات بوضوح، ويبعد عن صوته كل ما هو غريب بوقفات بين الكلمات. عاد أبيه لتناول طعام الإفطار، لكن أخته راحت تهمس، وتقول: “رشيهورش! افتح الباب، استحلفك بأعز ما لديك”. لكن (رشيهورش) لم يفكر في فتح الباب، وراح يثني على حرصه، فقد تعود أثناء رحلاته أن يغلق جميع أبواب البيت أثناء الليل.
كان يريد أن ينهض في هدوء وبدون إزعاج، ليرتدي ملابسه ثم يتناول فطوره، وبعدها يفكر فيما سيفعله. لأنه كان يعرف تمامًا أن الأفكار التي تراوده وهو في الفراش لا جدوى منها. تذكر أنه كثيرًا ما كان يشعر وهو في السرير بألم خفيف نتيجة نومه في وضع غير مناسب. وعندما يستيقظ بعد ذلك يكتشف أنه كان يُوهم نفسه بهذا التفسير، وهو الآن يريد أن يعرف إلاما ستأخذه أفكاره. فتغيُّر صوته لا يدل إلا على أنه مصاب ببرد شديد، وهو مرض التجار الرحالة. ولم يشك في تفسير كهذا على الإطلاق.
أزاح الغطاء بكل سهولة، كان يكفيه أن ينفخ فيه بفمه حتى يسقط. لكن ما دون ذلك كان ثقيلًا، خاصة وأن جسده كان عريضًا للغاية. كان يكفيه ساعديه وكفيه حتى ينهض، لكنه بدلًا منها كانت عنده أقدام كثيرة تتلوى بطريقة غريبة، ولم يكن قادرًا على التحكم بها. وكلما حاول أن يثني إحداها، تنفرد تلقائيًا مرة أخرى. وحتى عندما تمكن أخيرًا من أن يثني إحداها، تضطرب باقي الأرجل بشكل مؤلم وبصورة جنونية. قال (رشيهورش) لنفسه: “من العبث البقاء في السرير”.
حاول في البداية أن ينهض من السرير بالجزء الأسفل من جسمه الذي لم يراه بعد، ولم يتمكن حتى من تخيل شكله. لكن شعر أن هذا الجزء ثقيل للغاية، وتمكن منه ببطء شديد، عندما دفعه إلى الأمام بكل ما أوتي من قوة وهو غاضب، اختار الاتجاه الخاطيء، وارتطم بعارضة السرير الأمامية. فشعر بألم شديد، وعرف أن الجزء السفلي من جسمه هو أكثر أعضاءه حساسية.
حاول أن ينهض من السرير بالجزء العلوي من جسمه، التفت بحذر ناحية لوح السرير الأمامي، فتمكن من ذلك بسهولة، وتحركت كتلة جسمه العريضة الثقيلة ببطء في نفس اتجاه رأسه. وعندما برزت رأسه أخيرًا خارج السرير، وعَلِقت في الهواء، انتابه الخوف من التقدم بنفس الطريقة، فلو أنه نهض بهذه الطريقة، فالمعجزة وحدها هى التي قد تنقذ رأسه من ألا تتأذى. وليس عليه الآن سوى ألا يفقد ثقته بنفسه تحت أي ظرف، وإلا، فليبقى في السرير.
ولكنه عاد واستلقي في السرير بعد محاولات عديدة، واسترخى كما كان من قبل، ورأى مرة أخرى أقدامه الصغيرة وهى تتشاجر على نحو أعنف من ذي قبل. لم يكن ممكنًا التحلي بالهدوء والنظام وسط هذا الجنون، فقال لنفسه إنه من المستحيل أن يظل في السرير، ومن المنطقي أن يضحي بكل شيء طالما كان هناك أمل في أن يتحرر من هذا السرير. وراح يفكر ويمعن في التفكير المتعقل الهاديء بدلًا من أن يتخذ قرارًا يائسًا. في لحظات كهذه كان يشخص ببصره نحو النافذة، لكن النظر إلى شبورة الصباح التي تغطي الجانب المقابل للشارع الضيق لا تبعث على الكثير من الثقة والنشاط. قال لنفسه عندما رن جرس المنبه مرة أخرى: “الساعة الآن السابعة، أصبحت الساعة السابعة ومازال الضباب عالقًا”. ظل مستلقيًا وهو يتنفس بضعف وكأنه يتنظر أن يعيد الهدوء الكامل الأوضاع إلى طبيعتها وحقيقتها.