استيقظ بعد أن بهت سواد الليل، وغرق جسداهما وسط أصوات النهار الزاعقة، الرنانة مثل الموسيقى النحاسية.
- لا أفهم. وما هو العكس؟ ماذا تقصدين؟
- حسنًا، كوكاكولا باردة، وامرأة ساخنة[1]. هل تحب هذا؟
راحت تنتف شعيراته كلها بعد أن توقف عن الضحك، وتضع واحدة فوق الأخرى بكل حرص. وصنعت منها شعرة طويلة، طويلة جدًا. ثم انقضت عليه مع بداية يوم جديد، ومستهل مستقبل انفتح فجأة بعد أن كان محكمًا كقبضة اليد، لم تعلم عنه أي شيء قبل اللحظة. انقضّت على تلك الشعرة بحيوية، وعفوية. وكأنها قاطع طريق واثق من نفسه، ولا يعرف أن كل من حوله يترقبه.
في الصباح راحت تدمدم بلغة غريبة بعدما وضعت فرشاة الأسنان في فمها: “أتمنى أن يكتب لي أحدهم! فالقصص لا وجود لها”.
أخوض وسط الحشد. ميدان ضخم، وصالة قطار، وملاهي – أين أنا؟ كل منهم يغطي أذنه بهاتف محمول. نساء ورجال يتحدثون باستنفار، وبلهجة حادة. تعليمات مختصرة، ومعلومات تقدم في جمل جافة. مشهد غبي. لكني تخيلت ماكينة تقطيع كهربائية عملاقة، تتساقط منها الكلمات لتصنع شرائح لانشون بدلًا من وحدات لغوية ذات دلالة واضحة. ربما أني في مركز ملاحة فضائي.
أنتبه فجأة إلى أن هؤلاء الناس يتصلون ببعضهم هاتفيّا. كل منهم يتحدث مع الآخر عبر الهتاف. كلهم. إنها شبكة تواصل عجيبة: هذا يتصل بتلك، ورجل آخر يتصل برجل غيره، ونساء تتصلن بذلك الرجل، وأنا أتصل بكِ يا حبيبتي، لكنكِ تتصلين بها… لماذا لا نجرب أن نتحدث مع بعضنا مباشرة؟ فنحن قريبون من بعضنا. أجسادنا تتلامس، وأطراف أحذيتنا تلتقي عن قرب. تصطدم حقائبنا ببعضها، وأذرعنا التي علت وهي تحمل هواتفنا… نعم. كل منهم يتصل بالآخر. يتحدثون عبر الهواتف. أشعلوا جميعًا جهاز الرد الآلي لأنهم في الواقع لا يرغبون في أن يستمع كل منهم إلى الآخر، فالأمر لا يتعلق بالتواصل، بل بنحت رسالة للرد وكأنها حجر كريم. وإثبات القدرة على إيصال رسالة واضحة في أقل زمن ممكن. الرغبة في استخدام الكمات المختصرة. وحبس البشرية في جسد طفل، والفضاء في كرة جولف، كرات صغيرة، وقوية، وثقيلة كوزن الغول.
لا، لم أعد أرغب في الحديث معكِ. لقد أمروني بألا أتواصل معكِ، صرت حتى أشكك في وجودكِ بعد أن مر عام. لا أرغب سوى أن أترك لكِ رسالة في جهاز تسجيل الصوت. أعرف تمامًا أنها لا يجب أن تستمر لأكثر من دقيقة.
يعقوب! عمومًا، كانت تلك أول وآخر مرة أخونكَ فيها. فكرت فيها فقط من أجل “إيجور” – وأنت تعرف. عشيقي الذي التقيته صدفة صب الكوكاكولا على صدره، وصببت أنا في جوفي خمرًا جيدًا بصورة استثنائية، ولاذعًا بصورة استثنائية. فشربت منه كمية استثنائية. هذا الاستثناء الثلاثي جعلني ألاطفه في الفراش بكلمات سوقية. اصطدمت بـ”إيجور” قبل ذلك بيوم واحد عند مدخل العمارة بجوار المصعد. وكالعادة، انتظر إلى أن انصرفت “زدينا” إلى العمل، وذهبت الأطفال إلى المدرسة كي يتمكن من القيام برحلته اليومية إلى القبو دون أن يزعجه أحد. صارت كل أماكن الاختباء في الشقة معروفة للجميع: الفراغ القابع خلف صفوف الكتب، أو تحتها، الخزان الصغير في المرحاض، حذاء الصيد ذو العنق الطويل (التي كان يرتديه عندما كنتما تذهبان معًا للصيد)، حتى ذلك الصندوق الخشبي الذي يضم مشهد العائلة المقدسة، وزينة عيد الميلاد. الإدمان دائمًا يدعو إلى الابتكار الشيطاني، يدفعك إلى أحد الأركان، ويقبض عليكَ بقوة إلى أن تتفجر في داخلك ينابيع الخيال. قدرة ضخمة، لكنها ليست بلا حدود. أنا لا أهذي. الأمر كذلك بالفعل. وأنا اليوم واثقة من هذا. لكن ماذا بعد القبو؟ ماذا سيحدث بعدها؟ إلى أين سنظل نسقط، إلى أي كهف، أو مغارة، أو دهليز؟ إلى أية حفرة، وأية أعماق تحت البحار؟ إلى أين سنظل قادرين على أن ننغمس في شهواتنا، ونغوص بأسرارنا اللعينة؟
لم يكن “إيجور” مضطرًا إلى أن يشغل باله بكل هذا. قال: “مرحبًا “لوتسيا”، ثم قبلة بطعم حبات النعناع.
من ذا الذي أراد أن يخدعه بهذه الحبات؟ رائحة عفونة تفوح من فتحات وسط رائحة نفسه الفواح.
“مرحبًا يا جوده!”. كان “جودة ماسلوفيتس” يلقي التحية على كل معارفه، وكانوا يبادلونه إياها.
ارتبك، وأخذ يرفع سرواله المنفلت، المثني حول خصره. ظهر عليه شعور بالذنب مثل أي مدمن للخمر. من الواضح أن لقائي به أزعجه لأني أعقته وهو في طريقة إلى الخمر الموجود في القبو. خمر يتلألأ مثل عجل الذهب في صندوق كان للتلفزيون. وضع يده في جيب سرواله الخلفي بعد أن اعترته حالة إلهام مباغتة.
“اسمعي! افردي معصمكِ، أو ساعدكِ، أو لا أدري ما اسمه”.
فردت ذراعي بكل إذعان، ولممت أكمامي. قد لا أندهش لو أنه أحضر قدري الكائن في الصندوق، وطعنني به في وريدي مباشرة. لكنه سحب ذراعي إلى شفتيه بكل هوادة، ولعقه بلسانه عدة مرات. ثم وضع فوقه ملصقًا، وضغط عليه بشدة… ظهر الفأر “ميكي” فوق جلدي عندما أزال عنه وريقة صغيرة.
[1] ساخنة تعني بها مثليّة (المترجم)