أتذكَّرُ كل شيء. أتذكَّر ضربات قلبي المكتومة، والماء الدافئ الذي أتأرجح فيه على إيقاع تلك الضربات. ضوء أحمر اخترق أنسجة البطن، ودغدغ عيني التي لم يكتمل نموها بعد. رحت أسبح في ماء الرَّحِم، أحيانًا أَعْلَق بجداره، مثل سمكة سلّور على جدار حوض السمك. ابتسمت أمي وقتها، فتسرَّبتْ إلى سروالها الداخلي بعض قطرات البول. ما زلت أتذكر ذلك الأمر جيدًا. أتذكر ذلك الشعور بالأمان المطلق، والاتساق الكامل. أصوات مكتومة. سائل الرحم بمذاق البرتقال. ربطَنا معًا حبل سُرِّي واحد. أفضل قناة اتصال في الكون كله. كانت أمي امرأة على قدر المسئولية. كنت أشعر بأني قدَرها. لم تشعل سيجارة واحدة على مدى تسعة أشهر كاملة. فكبرت وأنا أختبئ في كهف دافئ، حتى تصل ساعتي إلى منتهاها، ويحين موعد وصولي. في ذلك الصيف توالد الكثير من الذباب، وسمعتُ طنينًا خفيفًا يصلني في بطن أمي. وفجأة راح الرحم يهتزّ. ضغطٌ على بطنها يدفعني خارج عُشّي. شعرت وقتها بالخوف لأول مرة. اعتصرني الرحم في داخله، وأجبرني على الدخول في أنبوب ضيق لزج. رحت أقاوم في البداية، لكن جاءني رجاء أمي أن أخرج من بطنها أخيرًا. انْسَدَّ أمامي طريق العودة، فدسست رأسي في القناة، ووُلدت في يوم حارّ. كنت منتبهة إلى كل شيء. سيراميك أبيض، ونظرة طبيب مهدود القوى يقول بجفاء: “إنها فتاة”! ضربني فوق ظهري، وسلَّمني لامرأة تقف بجواره. انفجرتُ في البكاء. اخترق رئتي هواء مفعم برائحة المطهّر فشعرت بالألم. أخذت الممرضة تتفحص جسدي لتتأكد من أن كل شيء في مكانه، ثم غسلت جسمي، ووزنتني، وطوقتني بلحاف للرُّضَّع. انتهت ولادتي، وصرت كاملة النمو، وعلى أكمل وجه. مولود معافًى تمامًا. قادر على أن يجابه الحياة فوق هذه الأرض. ثم وضعتني الممرضة فوق نهد أبيض، طيب الرائحة. رحت أمتصُّه بكل نَهَم. شعرت بطعم اللبن الحلو فوق لساني. نظرت حولي، وواصلت ارتشافه. رأيت ذبابة زرقاء ضخمة تجلس على زيّ الممرضة الأبيض الناصع، وتنظف أقدامها الأمامية.
وضعوني لاحقًا في قفص أبيض، وصار جسدي موثقًا بالأربطة. وحيدة. لا أسمع ضربات قلب اعتدت عليها. لا أسمع سوى بكاء. أيادٍ غريبة كانت دائمًا تضعني فوق عربة بيضاء بالية، وتأخذني إلى ذلك النهد. هكذا أصبح عالمي. صدر، وحلمة، ولبن. كشفت أمي عن أسنانها. عينان تفجرت أوردتهما، وشفتان مبللتان فوق رأسي. ورائحة لا تخطئها أنفي. مقتطفات من العالم راحت تُسجَّل في عقلي الخاوي. داهمني النوم وأنا أمتص اللبن. تَفْرَغ معدتي فأصرخ. لفَّتْنِي أمي ذات يوم في غطاء أصفر، وحملتني نحو ضوء قوي، ووضعتني في عربة صغيرة. يتأرجح بقوة فوق رأسي ببغاء أحمر بعينين منتفختين، فشعرت بدوار. مشت بي طويلًا، إلى أن وضعتني من جديد في القفص. ومالت عليَّ سيدة وقالت بوجه يبتسم، تفوح منه رائحة الثوم: “نور عيني!”. هكذا تعرَّفت على جدتي. نمتُ في سرير صغير مع دب كثيف الشعر. كنت مجرد كائن لا حول له ولا قوة. عاجز عن الحركة. غير قادر على التحكم في يديه أو قدميه. وصوتي! يكاد يعصف بأذني. نظرة محايدة ارتسمت على وجه الدب. كانت تتملكني سعادة غامرة كلما مال عليَّ رأس إنسان. رأس صغير، وشعر أسود فاحم، وعينان زرقاوان واسعتان تبتسمان لي. إنها أمي. تفوح منها رائحة اللبن. تحدثت بكل الحب عن جمالي. شعر المرأة الأخرى التي كانت تقترب مني كان أصفر مائلًا للبياض، وفوق عينيها خطوط سوداء طويلة. إنها جدتي. عرفت لاحقًا أن تلك الخطوط حاجبان رسمتهما بقلم حواجب رخيص اشترته من متجر مستحضرات التجميل.