عمَّت فوضى عارمة بدأت معها مشاعر البشر تتغيَّر، توارت الشمس خلف ستارة حديدية، وصارت الأراضي مُقفرة على مرمى البصر، وكل من كان يعمل فيها صار مفعمًا بحبات عرق ثقيل بارد سالت على جسده فبلَّلت قميصًا من الكتان يرتديه، سيطر عليهم خمول حيوانيّ بشع، يخفي تحته حالة من الهياج والثوران.
استمرت الأوضاع على هذه الحال لمدة ثلاثة أعوام، ولم تستقِم الأمور، على عكس ما ظهر، كان التواصل المباشر مع ما يحدث من أكثر ما غاب عن الناس لأنه كان يتمّ في مكان آخر بعيد عنهم، لكن وقتها، وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة أعوام، حلَّ الربيع وجاء معه إلى بلدة “رازتوكي” رجل يرتدي بزة عسكرية متربة، معلقة فوق جسد زابل قبل الأوان، قامته محنية نحو الأرض، وكلما مشي رفعت الرياح كُمَّ قميصه الأيمن الذي كان بلا ذراع، ظهر فوق خده أسفل عينه اليمنى -التي ضاقت قليلًا- أثر جرح طويل طال جزءًا من أنفه، وامتد إلى فمه حتى انتهى عند ذقنه الذي اكتسى بلون ينُمُّ عن جرح قد التأَمَ منذ وقت قريب، فجعله هذا اللون جرحًا حيًّا، واضحًا وكأن أحدهم قد لونه عن عمدٍ كي يراه كل إنسان، فلا ينساه بسهولة، أعطى ذلك الجرح الذي اخترق كل وجهه انطباعًا بأنه جاء نتيجة ضربة سَوْطٍ: توتر وجهه تحتها، وتجمد، واكتسى بمظهر احتفالي استثنائي للوحة تذكارية مثبت فوقها عينان بُنِيَّتان.
راح الجندي يتخطَّى متثاقلًا جداول ماء صغيرة انتشرت على الطريق، صوبت الشمس أشعتها الباردة فوق الأرض المُبللة، فلم تجد المياه منفذًا تنفذ إليه، وتكونت جُزر من ثلوج وسخة فوق التلال التي لم تصلها أشعة الشمس، ثلوج رسمت صورة كريهة وسط فيضان الألوان الباهتة، وتسَّربت مياه عكرة أسفل تلك الثلوج تصب في مصارف حاملة رواسب مبللة تعلق فوق سدود صغيرة، وتفوح منها رائحة الربيع التي تُعطي شعورًا بالنَّضارة والسعادة.
لكن مشاعر كهذه لم يكن لها تأثير على ذلك الجندي؛ دخل إلى بلدة “رازتوكي”، ولم يدهشه فيها أي شيء، التفت إلى يساره، وإلى يمينه، التفت دون أي اهتمام يذكر، وكأنه يمشي في بلدة غريبة، لا يعرف فيها أحدًا، ولا يعنيه ما يراه فيها.
لكن الأطفال حينما رأوه خرجوا من بيوتهم، وراحوا يصيحون:
- “انظروا! إنه جندي، جندي!”.
لكن الجندي “أوندري كورين” لم ينتبه حتى إلى هؤلاء الأطفال، واصل السير، يحفُّه هدوء حذر، قطعه صوت “إيلتشيتشكا” العجوز التي كانت في طريقها لابتياع ملح، هرولت ناحيته، وسألته:
- “من أنت؟”.
التفت إليها “أوندري كورين”، وجحظ فيها مندهشًا، فتح فمه، ثم سرعان ما أغلقها وكأنه استفاق فجأة، ثم هز رأسه بحزن.
صاحت المرأة مندهشة:
- “أوندري! من أين أنت قادم؟”.
هز “أوندري كورين” رأسه وهو يشير صوب الجنوب، جحظت فيه “إيلتشيتشكا”، ثم صرخت في فزع وهي ترى كُمَّ قميصه بلا ذراع:
- “أين ذراعك؟”.
رفع “أوندري كورين” عينيه، كانتا صغيرتين وكأن نارًا غريبة قد جففتهما، تطاير فيهما شرر للحظات وسرعان ما انطفأ، ثم رفع يده اليُسرى، وحركها في الهواء، وجذبها إلى صدره من ناحية اليمين، شهقت “إيلتشيتشكا”:
- “بَتَروها!”.