تتحسس بأصابعها مسند المقعد، وتجلس مُنكبّة على نفسها، وقدماها أسفل جسمها. هكذا كانت تظهر فوق الأريكة البنية القديمة، وكأنها خرجت من وسط الوحل كظل لأمي الحقيقية التي مازالت على قيد الحياة. ثم تستيقظ فجأة، وتقشعرّ. تصلح من شعرها، وتؤكد أن شيئًا ما قد حدث وهى جالسة دقيقة أو دقيقتين فوق الأريكة، ومستغرقة في التفكير. وهو ما لم يكن يحدث بالطبع. تقول إن أحدهم أخذ خُفّها، وسكب ماء من الغلاية الكهربائية، ثم أشعل التلفزيون، وغيّر الساعة في هاتفها المحمول. كان كثيرًا ما يظهر عليها الإرهاق بعد كل مرة تنام فيها هكذا. كنت أقول لها: كيف تكوني مرهقة وقد نمتِ لمدة ساعتين! لكنها تؤكد أنها لم تنم، فقط كانت تسترخي، وتقرأ الأخبار على الشاشة. كانت تجيبني على مهلٍ وهى تتنفس بصعوبة، أو تهمس وهى مسدلة العينين وتدعوني أن أصدقها، وتطلب مني أن أصب لها الماء في الغلاية لأصنع لها قهوة سادة قبل أن أخرج.
حفنات من الطين والحجارة محفورة بمجرفة بلاستيكية صغيرة كانت تطوق جثة قِط، وتمنع عنه الديدان والذباب، وتَحُول دون فضولي لرؤيته، وتمنعني من أن أعبث بالعصاة في صدره الصغير المفتوح. كان جسده مازال دافئًا أمام بوابة صغيرة عند مدخل حديقة الجيران، دسوه في حفرة من أثر عجلة سيارة داستها دراجة جارنا النارية بكل ثقلها فقسمته إلى نصفين متساويين، صارا كأنهما قطعتين من النقانق الموصولة بحبل. عَلِقت الأتربة بفروه، وبدت إحدى أقدامه مكسورة بطريقة ملفتة. لولا حدقتي عينيه، تلك الكرتين اللامعتين المتدليتين من محجر عينيه لبدى ذلك القط الصغير وكأنه نمر أسود جاء من رواية “نمر تراسي”، نمر صغير يرقد كما هو الحال دائمًا على الطريق، كسولًا، معتدًّا بنفسه، ومستمتعًا بدفء الشمس، يتجاهل نظراتي الفضولية.
لم أتردد كثيرًا. كنت أعرف أن أحد لن يهتم برفع تلك البقعة السوداء من الطريق. كنت أعرف أيضًا أني لن أمنع نفسي من أن ألتقط عصًا أو سكينًا أو حتى مقص الحديقة وأعبث في الجثة بفضول حقيقي عما يوجد تحت الفرو، وعن ملمسه، ورائحته. هل له رائحة اللحم في مطعم المدرسة، أو أنه يشبه إصبع مبتور. كنت أعرف أني أفعل شيئًا لا يليق، ولا يليق أن أفعله هنا في الشارع، بدون رداء أبيض، وأدوات معقمة، وأمل في أن أعيد إليه الحياة.
قمت وأنا في السابعة من عمري مع أصدقائي بدفن أحد العصافير. عثرنا عليه أسفل إحدى الشرفات في الحي. كان كائنًا صغيرًا، وردي اللون. تُغطي جسده بضعة ريشات رطبة، له عينان زرقاوان واسعتان. من الصعب أن تصدق أن طائرًا مثله يمكنه أن يحلق في الهواء، وتتابعه بسعادة وهو ينقر في فتات الطعام أمام أحد المتاجر الكبيرة. اخترنا له مكانًا هادئًا وجميلًا. قمنا بعمل حفرة على عمق ثلاثة أصابع، وصنعنا له شاهد قبر صغير من ريشتين وحجر، نعم، حجر وصليب، تمامًا كما يجب، وكما يليق عند موت أي إنسان. أقمنا له أيضًا حفل تأبين حقيقي. فارتدينا ملابس رياضية داكنة اللون، وأحضرنا زهور وشموع صغيرة تناسب قبر العصفور الصغير، وقمنا بتلاوة الصلوات ونحن نحبس أنفاسنا، ونتلعثم في كل كلمة. ومن لم يعرف نص الصلوات كان يردد آخر مقطع منها. شعر كل منا بشكل خفيف برائحة الموت، فقط للحظة قصيرة، عندما أدركنا حتميته. لم نستطع وقتها أن ندرك أكثر من ذلك. إضافة إلى الخوف، والرعب الرهيب من الموت والتوقف عن الحركة. انتبهنا إلى أننا مازلنا صغارًا، ضعيفي البنية والمقاومة، ويمكن أن نصطدم في أي وقت بسور السلم، وينتهي بنا الحال فوق الرصيف أسفل العمارة وأقدامنا مكسورة. استمر ذلك الوضع للحظات ونحن نفكر في الموت وفي الطيور. بعد ذلك بأسبوع انشغلنا بأمر آخر ونسينا حكاية الطائر.
بعدها بأربعة أو خمسة أعوام رأيت قِطًا ميتًا أمام بوابة حديقة بيتنا الريفيّ. كنت ساعتها وحدي. بدون تعليق قد ينم عن ارتيابي، وبدون وهم الإيمان بالملاك الحارس، وبدون حزن حقيقي على القط الصغير الذي لم يسمح لي يومًا أن أضع يدي عليه، وخوفًا من طبيعتي الفضولية رحت أتفحصه عن قرب. وبعد لحظات من التردد لمسته بإصبعي. كان مازال دافئًا، وطريًا مثل غطاء سرير مطروح. بدا أقبح قليلًا من غيره من القطط وهى نائمة. لم أشعر نحوه بالأسف، ولم أشعر بشيء غير عادي. فهو لم يكن صديقًا لي. كان مجرد متسول، يظهر عندما يكون في يدي طعام. لم يظهر أي امتنان على إطعامي له. حاولت أن أستدعي ولو دمعة واحدة، لكني لم أنجح. حاولت أيضًا أن أتجاهل النظر إليه، لكني لم أستطع.
عدت إلى الحديقة، وأخذت مقشة من وراء الباب، ثم بدأت أنظف غرفتي كي أشغل نفسي بشيء آخر غير القط. حملت كومة القمامة على صفحات جريدة قديمة، وتوجهت نحو البيت – كنت غالبًا أرش القمامة فوق الحشائش الموجودة أمام بيتنا الريفي مباشرة –دون أن ألقي ولو نظرة سريعة على البقعة السوداء الموجودة على الطريق. بعدها رحت أنفض أغطية السرير والوسائد. تخيلت أن أحدهم يناديني من خلف شجيرات سور الحديقة، فألقيت الوسائد على الحشائش وأسرعت خارج البوابة، فلم أجد أحدًا. لم أجد سوى تلك البقعة التي تضيء مثل ممحاة فوق سبورة المدرسة، ثقب أسود يجذب أنظار الفتيات الفضوليات. أمسكت الجاروف حتى تمكنت من نزع الجثة عن الأرض بعد ثلاث أو أربع محاولات. حملته في الجاروف، ووقفت أمام البوابة أفكر في أن ألقي به في حديقة جارنا عبر السور. وفي النهاية قررت أن أُودّعه بطريقة لائقة.